إن التضخم العالمي في تزايد، ولا يُجرى التصرف حياله! هكذا نستطيع أن نصف الحالة الرمادية التي يعيشها العالم الآن جراء الأزمة الناشئة عن سلاسل التوريد، والتي تضرب الدول متأثرة بالإغلاق الناجم عن جائحة كوفيد-19، والتي مازالت آثارها تظهر مع المتحور "دلتا" وصولاً إلى متحور "أوميكرون". وتجعل حالة المشهد الاقتصادي الحالي، المستثمر في حالة استنفار شبه يومية، خاصة مع انخفاض المؤشرات العالمية والعربية للأسواق التقليدية، ومع زيادة التضخم، حيث سجلت أوروبا معدلات تضخم هي الأعلى خلال 13 عاماً في أكتوبر 2021. ووفقاً للبيانات الأولية من مكتب الإحصاء الأوروبي، ارتفع معدل التضخم في 19 دولة تتعامل باليورو إلى 4.1% في أكتوبر الماضي. ووسط هذا المشهد المُعقد، ثمة تساؤل مهم مطروح، وهو ماذا يفعل المستثمرون في العالم الآن؟ وأين يتجهون؟
ولكي نجيب على هذا السؤال، يجب أن نضع في الاعتبار شيئاً مهاً، وهو أن الأزمة الحالية هي أزمة صحية صاحبتها أزمة اقتصادية، وليس مثل الأزمات التي حدثت تاريخياً من قبل، حيث كانت اقتصادية وتتأثر بها القطاعات الأخرى كافة، مثل أزمة الرهون العقارية وغيرها.
وقد بدأت الأزمة الحالية مع انتشار جائحة كوفيد-19 في نهاية عام 2019، ومع بداية الربع الأول من عام 2020 بدأت الدول في تطبيق إجراءات احترازية نتج عنها الكثير من التذبذبات في الأسواق التقليدية. وفي وسط هذه التذبذبات، بدأت الأسواق الخاصة تنتعش، وبدأ المستثمرون يتجهون نحو الآتي:
1- الاستثمار في الذهب: يعد الملاذ الآمن الأول في وقت الأزمات المالية تاريخياً. فإذا نظرنا إلى الأرقام، نجد معدل التغير في أداء أسعار الذهب قد وصل إلى ما يزيد على 50% خلال خمس سنوات، فالجميع يعي أن الذهب من الأدوات المالية الأقل مخاطرة عند تذبذب الأسواق التقليدية. وخلال 20 عاماً، كان أداء الذهب متصاعداً بنسبة تزيد على 551%، وهذا مؤشر واضح على أن الذهب هو التحوط الأول للمستثمرين وقت الأزمات، وأن العلاقة عكسية بين الدولار والذهب؛ فكلما زاد الدولار قل الإقبال على الذهب، والعكس صحيح.
2- الاستثمار في "العملات المُشيفرة": هي من الأدوات الأخرى التي بدأ المستثمرون في التعامل معها بشكل جدي، خاصة مع التقدم الكبير الذي تحققه هذه العملات وحصولها على المزيد من الاعتراف بالرغم من التحذيرات الدولية من بعض الجهات الحكومية والدولية التي تحارب انتشار ثقافة التداول بالعملات المُشيفرة وأن تكون بديلاً عن العملات الورقية أو الرقمية المُدعمة بالعملات المحلية في البيع والشراء.
وبالرغم من تلك التحذيرات؛ بدأت شركات عالمية بالفعل في التعامل بالعملات الرقمية في البيع والشراء في قطاعات مثل العقارات والتجزئة وخلافه، ما يُسلط ضوءاً أخضر خافتاً للسماح بوجود العملات الرقمية التي سوف تغير من شكل النظام المالي العالمي في حال استمرت بهذا الانتشار. وبالتالي يعد الاستثمار في "العملات المُشيفرة" من الأدوات التي أعلن كبار المستثمرين والبنوك الخاصة أنها من ضمن محافظهم الاستثمارية.
ومع اتجاه شخصيات عالمية في الإعلام والرياضة للترويج لها، أصبحت "العملات المشيفرة" واحدة من الحلول الاستثمارية المهمة بالرغم من عدم حصولها على الشرعية القانونية بشكل كامل في العديد من الدول في العالم والتي لديها تخوفات كبيرة، وتحاول أن تعوضها بوجود العملات الرقمية المركزية التي سوف تحل محل العملات الورقية للدولة، بحيث يصبح لكل دولة عملتها الرقمية التي يتم التداول بها.
3- "الاستثمارات الجريئة": تعد من الأدوات المالية التي تجذب انتباه المستثمرين خلال الفترة الأخيرة، حيث بدأت "الاستثمارات الجريئة" تأخذ مكانتها مع ظهور العديد من شركات "اليونيكورن" unicorn (هي شركات تبلغ قيمتها السوقية أكثر من مليار دولار) في العديد من المجالات مثل التقنية المالية (Fintech)، حيث بلغ عدد شركات "اليونيكورن" في الولايات المتحدة 81 شركة، وأبرزها تقع في ولايتي نيويورك وكاليفورنيا، وجاءت الصين في المرتبة الثانية بـ 11 شركة.
وأصبح هذا النوع من الاستثمارات جاذباً لاستثمار المزيد من الأموال في الشركات الناشئة، وكذلك "صناديق رأس المال الجريء" التي بدأت تنتشر في دول الخليج. وتتنوع الاستثمارات الجريئة التي تجذب المستثمرين، وتسيطر التقنية على أغلبها؛ فنجد التقنية المالية، والتقنية العقارية، والتقنية التعليمية، وكذلك التطبيقات اللوجستية، وتطبيقات التقنية الزراعية، وغيرها من المنصات والتطبيقات التي تتخذ من التقنية محوراً أساسياً في صناعتها مع انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء و"الميتافيرس" في حياتنا اليومية.
وسوف تكون كل هذه التقنيات وجهة المستثمرين القادمة لضخ مزيد من الأموال في الشركات الناشئة وكذلك الشركات الكبرى ذات التوجه القائم على التقنية مثل أشباه المواصلات، وتطبيقات تغير المناخ، وصناديق الاستثمار في مراكز البيانات والتي تعد التوجه القادم لـ "صناديق الريت" – الصناديق العقارية المتداولة – إذ تعد مراكز البيانات إحدى الاستثمارات الجاذبة للمستثمرين حالياً. ومركز البيانات هو مرفق يوفر بيئة آمنة وموثوقة للعملاء لإيواء الخوادم وغيرها من المعدات الحاسوبية. وتحتوي هذه المرافق بشكل عام على مصادر طاقة موثوقة وغير منقطعة، ومعدات تبريد، ومستوى عالٍ من الأمان. وتمتلك الصناديق العقارية المتداولة في مركز البيانات تلك المرافق وتديرها.
كما ستنمو الأجهزة والمركبات القائمة على البيانات الضخمة في الأسواق بأعداد متزايدة خلال السنوات القادمة. فعلى سبيل المثال، من المتوقع أن ترتفع شحنات المركبات ذاتية القيادة من 64 ألفاً في عام 2018 إلى 569 ألفاً بحلول عام 2025. ومن المتوقع أيضاً أن ينمو سوق الذكاء الاصطناعي من 11 مليار دولار حالياً إلى 90 مليار دولار أو أكثر من ذلك، بحلول ذلك الوقت.
ختاماً، وبعد هذا العرض الموجز لقراءة التوجهات الاستثمارية الحالية للمستثمرين في ظل الأوضاع الاقتصادية الضبابية التي يشهدها العالم الآن، نجد أن مستقبل الاستثمار يكمن في الاستثمارات البديلة، وعلى الأخص "الاستثمارات الجريئة" القائمة على التقنيات المُبتكرة، والتي تعد أحد أسرع القطاعات انتشاراً عقب جائحة كورونا وأكثرها ثباتاً في مواجهة تذبذب الأسواق العامة. فنجد أن المكاتب العائلية والبنوك الخاصة والصناديق السيادية تعدل من أوزان محافظها الاستثمارية بشكل كبير، وتتجه نحو الاستثمارات البديلة بقوة لكي تحوط على محافظها الاستثمارية. فالاستثمارات البديلة هي الملاذ الآمن والأكثر استقراراً حالياً للمستثمرين الراغبين في تنوع محافظهم الاستثمارية، والتحوط ضد مخاطر الاستثمارات التقليدية.